خامساً / سب الأموات :
إذا مات الميت فقد قامت قيامته ، وقد أفضى لما قدم ، فيجب أن يُدعى له بالمغفرة والرحمة ، إن كان مسلماً ، ولا يجوز أن يُسب أو يُلعن ، لأنه لا يستطيع أن يستزيد من أعمال البر والخير ، بل انقطع عمله من هذه الدنيا ، فهو بأمس الحاجة لمن يدعو له بالرحمة وغفران الذنوب .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا " [ أخرجه البخاري ] .
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ فِي أَبٍ كَانَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَطَمَهُ الْعَبَّاسُ ، فَجَاءَ قَوْمُهُ فَقَالُوا : لَيَلْطِمَنَّهُ كَمَا لَطَمَهُ ، فَلَبِسُوا السِّلَاحَ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ أَهْلِ الْأَرْضِ تَعْلَمُونَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " فَقَالُوا : أَنْتَ " ، فَقَالَ : " إِنَّ الْعَبَّاسَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ ، لَا تَسُبُّوا مَوْتَانَا فَتُؤْذُوا أَحْيَاءَنَا " ، فَجَاءَ الْقَوْمُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِكَ اسْتَغْفِرْ لَنَا " [ أخرجه النسائي ] ، فانظروا كيف كانت عاقبة سب الأموات ، لقد كادت أن تكون سبباً لقتال المسلمين ، لأن كل إنسان لا يرضى لأحد أن يلعن قريبه الميت مهما عمل من أعمال ، أو اقترف من معاص ، فهناك رحمة لا تزال معلقة بالقلب لكل قريب ، وهناك غيرة لا تسمح لأحد بأن يتعدى على صاحبها .
سادساً / سب الدهر :
ويقصد بالدهر الأيام والأسابيع والشهور والسنين ، فيحرم سب ذلك ، لأن ما يحصل فيها من خير أو شر فهو بقدر الله تعالى ، وقضاء الله خير لمن تأمل وعرف العقيدة الصحيحة ، فمن سب الدهر فقد سب الله تعالى ، لأن الله هو الدهر ، وهو يقلب الليل والنهار ، وكل شيء بيده سبحانه .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : " يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ ، بِيَدِي الْأَمْرُ ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ " [ متفق عليه ] .
سابعاً / لعن الكفار :
لعن الإنسان المعين لا يجوز بحال لمن هو على قيد الحياة ، لكن من مات وهو كافر فهذا عليه لعنة الله ولا شك في ذلك ، قال تعالى : " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون " [ البقرة 161-162 ] ، وقال تعالى : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون * إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين " [ آل عمران 90-91 ] .
فمن مات من الكفار فيجوز لعنه ، كفرعون وهامان وقارون وأبو جهل ، وغيرهم .
أما لعن المعين الذي هو على قيد الحياة لا يجوز ، إلا أن يعمه ضمن جمع ، فيقول : لعنة الله على الكافرين ، فهذا جائز ، لأن الكافر المعين ربما يسلم فيحسن إسلامه ، وينفع الله به ، فلا يجوز لعنه ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا ، أَنَّ يَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَالَ مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ قَالَتْ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ " [ متفق عليه ] .
ثامناً / لعن الشيطان :
الشيطان ملعون ، لعنه الله عز وجل في كتابه ، فلا نلعنه ، بل الواجب علينا التعوذ من شره وكيده ، لأن كيده عظيماً ، قال تعالى : " إن يتبعون إلا شيطاناً مريداً لعنه الله " [ النساء 117-118 ] .
ولكن لو لعنه أحد فلا شيء عليه ، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لعنه أيضاً في صلاته ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ، ثُمَّ قَالَ : أَلْعَنُكَ بِلَعْنَة اللَّهِ ثَلَاثًا ، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ ، قَالَ : " إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي ، فَقُلْتُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قُلْتُ أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ " [ أخرجه مسلم ] .
لعن أصحاب المعاصي غير المعينين :
المعصية موجودة منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام ، حيث أمر الله إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكفر ، فلعنه الله تعالى وطرده من رحمته ، ونهى الله تعالى آدم أن يأكل من الشجرة ، فوسوس له الشيطان وزين له الأكل منها ، فأكل منها ، فأهبطه الله إلى الأرض ، ولكنه تاب إلى ربه وأناب ، فقبل الله توبته ، وكذلك أحد ابني آدم قتل أخاه ، وهي معصية عظيمة ، وأمر منكر خطير ، فالمعاصي موجودة ما وجد ابن آدم .
لكن هناك عصاة موحدين ، يؤمنون بالله تعالى ولا يكفرون به ، فمعاصيهم لا تخرجهم من دائرة الإسلام ، بل هم مسلمون ، ولكن إيمانهم ناقص ، لأن الإيمان يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ، فهم تحت مشيئة الله تعالى يوم القيامة ، إن شاء عذبهم ، وإن شاء غفر لهم ، ما لم يستحلوا المعصية ، فغن استحلوا المعصية ، وانتفت الموانع ، فهم كفار والعياذ بالله .
فأما الموحد فلا يجوز لعنه بعينه ، لأنه مسلم .
وأما الكافر فلا يجوز لعنه بعينه ، لأنه ربما أسلم ، ولكن يجوز تعميم اللعن ، كما قال تعالى : " ألا لعنة الله على الظالمين " [ هود 18 ] .
وقال تعالى : " فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " [ الأعراف 44 ] .
وقال تعالى : " ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين " [ آل عمران 61 ] .
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أناساً من أصحابي المعاصي غير المعينين ، ولعن بعض قبائل العرب ، ولعن اليهود والنصارى ، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء والعكس ، وإليك طرفاً من تلك الأحاديث :
عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ : " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا " قَالَتْ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا " [ متفق عليه ] .
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ ، وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عير إِلَى ثور ، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا ، أَوْ آوَى مُحْدِثًا ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ ، وَقَالَ : ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ ، وَمَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ " [ متفق عليه ] .
وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ ، وَكَسْبِ الْأَمَةِ ، وَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرَ " [ أخرجه البخاري ] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا ، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ " [ متفق عليه ] .
والملعونين في القرآن الكريم ، والسنة المطهرة كثيرون جداً ، وقد أفردت لذلك كتاباً ، هو عبارة عن محاضرة ، وعدة خطب ، أسأل الله تعالى أن ينفع بذلك ، وأن يكون خالصاً لوجهه الكريم .